خطبة من دون ألف للإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
نُقِلَ أَنَّ جَمَاعَةً حَضَرُوا لَدَيْهِ
وَتَذَاكَرُوا فَضْلَ الْخَطِّ وَمَا فِيهِ فَقَالُوا لَيْسَ فِي
الْكَلَامِ أَكْثَرُ مِنَ الْأَلِفِ وَيَتَعَذَّرُ النُّطْقُ بِدُونِهَا
فَقَالَ لَهُمْ فِي الْحَالِ هَذِهِ الْخُطْبَةَ مِنْ غَيْرِ سَابِقِ
فِكْرَةٍ وَلَا تَقَدُّمِ رَوِيَّةٍ وَسَرَدَهَا وَلَيْسَ فِيهَا أَلِفٌ :
"حَمِدْتُ مَنْ عَظُمَتْ مِنَّتُهُ، وَسَبَغَتْ نِعْمَتُهُ، وَتَمَّتْ
كَلِمَتُهُ، وَنَفَذَتْ مَشِيَّتُهُ، وَبَلَغَتْ حُجَّتُهُ، وَعَدَلَتْ
قَضِيَّتُهُ، وَسَبَقَتْ غَضَبَهُ رَحْمَتُهُ، حَمِدْتُهُ حَمْدَ مُقِرٍّ
بِرُبُوبِيَّتِهِ مُتَخَضِّعٍ لِعُبُودِيَّتِهِ، مُتَنَصِّلٍ مِنْ
خَطِيئَتِهِ، مُعْتَرِفٍ بِتَوْحِيدِهِ، مُسْتَعِيذٍ مِنْ وَعِيدِهِ
مُؤَمِّلٍ مِنْ رَبِّهِ مَغْفِرَةً تُنْجِيهِ، يَوْمَ يَشْغَلُ كُلٌّ عَنْ
فَصِيلَتِهِ وَبَنِيهِ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَرْشِدُهُ وَنُؤْمِنُ بِهِ
وَنَتَوَكَّلُ عَلَيْهِ، وَشَهِدْتُ لَهُ شُهُودَ عَبْدٍ مُخْلِصٍ
مُوقِنٍ، وَفَرَّدْتُهُ تَفْرِيدَ مُؤْمِنٍ مُتَيَقِّنٍ، وَوَحَّدْتُهُ
تَوْحِيدَ عَبْدٍ مُذْعِنٍ، لَيْسَ لَهُ شَرِيكٌ فِي مُلْكِهِ، وَلَمْ
يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ فِي صُنْعِهِ، جَلَّ عَنْ مُشِيرٍ وَوَزِيرٍ وَعَوْنٍ
وَمُعِينٍ وَنَظِيرٍ، عَلِمَ فَسَتَرَ، وَبَطَنَ فَخَبَرَ، وَمَلَكَ
فَقَهَرَ، وَعُصِيَ فَغَفَرَ، وَعُبِدَ فَشَكَرَ، وَحَكَمَ فَعَدَلَ،
وَتَكَرَّمَ وَتَفَضَّلَ، لَنْ يَزُولَ وَلَمْ يَزَلْ، لَيْسَ كَمِثْلِهِ
شَيْءٌ، وَهُوَ قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ، وَبَعْدَ كُلِّ شَيْءٍ، رَبٌّ
مُتَفَرِّدٌ بِعِزَّتِهِ، مُتَمَكِّنٌ بِقُوَّتِهِ، مُتَقَدِّسٌ
بِعُلُوِّهِ، مُتَكَبِّرٌ بِسُمُوِّهِ، لَيْسَ يُدْرِكُهُ بَصَرٌ، وَلَمْ
يُحِطْ بِهِ نَظَرٌ، قَوِيٌّ مَنِيعٌ بَصِيرٌ سَمِيعٌ رَءُوفٌ رَحِيمٌ،
عَجَزَ عَنْ وَصْفِهِ مَنْ وَصَفَهُ، وَضَلَّ عَنْ نَعْتِهِ مَنْ
عَرَفَهُ، قَرُبَ فَبَعُدَ، وَبَعُدَ فَقَرُبَ، يُجِيبُ دَعْوَةَ مَنْ
يَدْعُوهُ وَيَرْزُقُهُ وَيَحْبُوهُ، ذُو لُطْفٍ خَفِيٍّ، وَبَطْشٍ
قَوِيٍّ، وَرَحْمَةٍ مُوسَعَةٍ، وَعُقُوبَةٍ مُوجِعَةٍ، رَحْمَتُهُ
جَنَّةٌ عَرِيضَةٌ مُونِقَةٌ، وَعُقُوبَتُهُ جَحِيمٌ مَمْدُودَةٌ
مُوبِقَةٌ، وَشَهِدْتُ بِبَعْثِ مُحَمَّدٍ عَبْدِهِ وَرَسُولِهِ
وَنَبِيِّهِ وَصَفِيِّهِ وَحَبِيبِهِ وَخَلِيلِهِ، بَعَثَهُ فِي خَيْرِ
عَصْرٍ وَحِينَ فَتْرَةٍ وَكُفْرٍ، رَحْمَةً لِعَبِيدِهِ وَمِنَّةً
لِمَزِيدِهِ، خَتَمَ بِهِ نُبُوَّتَهُ وَوَضَحَتْ بِهِ حُجَّتُهُ،
فَوَعَظَ وَنَصَحَ وَبَلَّغَ وَكَدَحَ، رَءُوفٌ بِكُلِّ مُؤْمِنٍ، رَحِيمٌ
سَخِيٌّ رَضِيٌّ وَلِيٌّ زَكِيٌّ، عَلَيْهِ رَحْمَةٌ وَتَسْلِيمٌ،
وَبَرَكَةٌ وَتَعْظِيمٌ وَتَكْرِيمٌ، مِنْ رَبٍّ غَفُورٍ رَحِيمٍ، قَرِيبٍ
مُجِيبٍ حَلِيمٍ.
وَصَّيْتُكُمْ مَعْشَرَ مَنْ حَضَرَ بِوَصِيَّةِ رَبِّكُمْ،
وَذَكَّرْتُكُمْ سُنَّةَ نَبِيِّكُمْ، فَعَلَيْكُمْ بِرَهْبَةٍ تُسْكِنُ
قُلُوبَكُمْ، وَخَشْيَةٍ تدري تُذْرِي دُمُوعَكُمْ، وَتَقِيَّةٍ
تُنْجِيكُمْ قَبْلَ يَوْمِ يُذْهِلُكُمْ وَيَبْتَلِيكُمْ. يَوْمَ يَفُوزُ
فِيهِ مَنْ ثَقُلَ وَزْنُ حَسَنَتِهِ، وَخَفَّ وَزْنُ سَيِّئَتِهِ،
وَعَلَيْكُمْ بِمَسْأَلَةِ ذُلٍّ وَخُضُوعٍ، وَتَمَلُّقٍ وَخُشُوعٍ،
وَتَوْبَةٍ وَنُزُوعٍ، وَلْيَغْنَمْ كُلٌّ مِنْكُمْ صِحَّتَهُ قَبْلَ
سُقْمِهِ وَشَيْبَتَهُ قَبْلَ هَرَمِهِ، وَسَعَتَهُ قَبْلَ فَقْرِهِ،
وَفَرْغَتَهُ قَبْلَ شُغُلِهِ، وَحَضَرَهُ قَبْلَ سَفَرِهِ، وَحَيَاتَهُ
قَبْلَ مَوْتِهِ قَبْلَ يَهِنُ وَيَهْرَمُ، وَيَمْرَضُ وَيَسْقَمُ،
وَيَمِلُّهُ طَبِيبُهُ، وَيُعْرِضُ عَنْهُ حَبِيبُهُ، وَيَنْقَطِعُ
عُمُرُهُ وَيَتَغَيَّرُ عَقْلُهُ. ثُمَّ قِيلَ: هُوَ مَوْعُوكٌ وَجِسْمُهُ
مَنْهُوكٌ، ثُمَّ جَدَّ فِي نَزْعٍ شَدِيدٍ، وَحَضَرَهُ كُلُّ قَرِيبٍ
وَبَعِيدٍ، فَشَخَصَ بِبَصَرِهِ، وَطَمَحَ بِنَظَرِهِ، وَرَشَحَ جَبِينُهُ
وَخَطَفَتْ عَرِينُهُ، وَجَدَبَتْ نَفْسُهُ وَبَكَتْ عِرْسُهُ، وَحَضَرَ
رَمْسُهُ، وَيَتَمَ مِنْهُ وَلَدُهُ، وَتَفَرَّقَ عَنْهُ عَدَدُهُ،
وَفُصِمَ جَمْعُهُ، وَذَهَبَ بَصَرُهُ وَسَمْعُهُ، وَجُرِّدَ وَغُسِّلَ،
وَعُرِيَ وَنُشِّفَ وَسُجِّيَ، وَبُسِطَ لَهُ وَهُيِّئَ، وَنُشِرَ
عَلَيْهِ كَفَنُهُ، وَشُدَّ مِنْهُ ذَقَنُهُ، وَحُمِلَ فَوْقَ سَرِيرٍ،
وَصُلِّيَ عَلَيْهِ بِتَكْبِيرٍ بِغَيْرِ سُجُودٍ وَتَعْفِيرٍ، وَنُقِلَ
مِنْ دُورٍ مُزَخْرَفَةٍ ، وَقُصُورٍ مُشَيَّدَةٍ وَفُرُشٍ مُنَجَّدَةٍ،
فَجُعِلَ فِي ضَرِيحٍ مَلْحُودٍ ضَيِّقٍ مَرْصُودٍ، بِلَبِنٍ مَنْضُودٍ،
مُسَقَّفٍ بِجَلْمُودٍ، وَهِيلَ عَلَيْهِ عَفْرُهُ، وَحُشِيَ مَدَرُهُ
وَتَحَقَّقَ حَذَرُهُ، وَنُسِيَ خَبَرُهُ وَرَجَعَ عَنْهُ وَلِيُّهُ
وَنَدِيمُهُ وَنَسِيبُهُ وَحَمِيمُهُ، وَتَبَدَّلَ بِهِ قَرِينُهُ
وَحَبِيبُهُ، فَهُوَ حَشْوُ قَبْرٍ، وَرَهِينُ حَشْرٍ، يَدِبُّ فِي
جِسْمِهِ دُودُ قَبْرِهِ، وَيَسِيلُ صَدِيدُهُ مِنْ مَنْخِرِهِ،
وَتَسْحَقُ تُرْبَتُهُ لَحْمَهُ، وَيُنْشَفُ دَمُهُ، وَيُرَمُّ عَظْمُهُ
حَتَّى يَوْمِ حَشْرِهِ فَيَنْشُرُهُ مِنْ قَبْرِهِ، وَيُنْفَخُ فِي
الصُّورِ، وَيُدْعَى لِحَشْرٍ وَنُشُورٍ، فَثَمَّ بُعْثِرَتْ قُبُورٌ،
وَحُصِّلَتْ سَرِيرُهُ فِي صُدُورٍ، (وَجِيءَ بِكُلِّ نَبِيٍّ وَصِدِّيقٍ
وَشَهِيدٍ وَمِنْطِيقٍ وَقَعَدَ لِفَصْلِ حُكْمِهِ قَدِيرٌ) بِعَبْدِهِ
خَبِيرٌ بَصِيرٌ، فَكَمْ حَسْرَةٍ تُضْنِيهِ فِي مَوْقِفٍ مَهِيلٍ،
وَمَشْهَدٍ جَلِيلٍ، بَيْنَ يَدَيْ مَلِكٍ عَظِيمٍ بِكُلِّ صَغِيرَةٍ
وَكَبِيرَةٍ عَلِيمٍ، فَحِينَئِذٍ يُلْجِمُهُ عَرَقُهُ وَيَخْفِرُهُ
قَلَقُهُ، فَعَبْرَتُهُ غَيْرُ مَرْحُومَةٍ وَصَرْخَتُهُ غَيْرُ
مَسْمُوعَةٍ، وَبَرَزَتْ صَحِيفَتُهُ، وَتَبَيَّنَتْ جَرِيرَتُهُ،
فَنَظَرَ فِي سُوءِ عَمَلِهِ، وَشَهِدَتْ عَيْنُهُ بِنَظَرِهِ، وَيَدُهُ
بِبَطْشِهِ وَرِجْلُهُ بِخَطْوِهِ، وَجِلْدُهُ بِلَمْسِهِ وَفَرْجُهُ
بِمَسِّهِ، وَيُهَدِّدُهُ مُنْكَرٌ وَنَكِيرٌ، وَكُشِفَ لَهُ حَيْثُ
يَصِيرُ، فَسُلْسِلَ جِيدُهُ، وَغُلَّتْ يَدُهُ، فَسِيقَ يُسْحَبُ
وَحْدَهُ. فَوَرَدَ جَهَنَّمَ بِكُرْهٍ شَدِيدٍ، وَظَلَّ يُعَذَّبُ فِي
جَحِيمٍ، وَيُسْقَى شَرْبَةً مِنْ حَمِيمٍ، تَشْوِي وَجْهَهُ وَتَسْلَخُ
جِلْدَهُ، يَسْتَغِيثُ فَيُعْرِضُ عَنْهُ خَزَنَةُ جَهَنَّمَ،
وَيَسْتَصْرِخُ فَيَلْبَثُ حُقْبَهُ بِنَدَمٍ، نَعُوذُ بِرَبٍّ قَدِيرٍ
مِنْ شَرِّ كُلِّ مَصِيرٍ، وَنَسْأَلُهُ عَفْوَ مَنْ رَضِيَ عَنْهُ،
وَمَغْفِرَةَ مَنْ قَبِلَ مِنْهُ وَهُوَ وَلِيُّ مَسْأَلَتِي، وَمُنْجِحُ
طَلِبَتِي، فَمَنْ زُحْزِحَ عَنْ تَعْذِيبِ رَبِّهِ جُعِلَ فِي جَنَّتِهِ
بِقُرْبِهِ وَخُلِّدَ فِي قُصُورٍ وَنِعَمِهِ، وَمُلِكَ بِحُورٍ عِينٍ
وَحَفَدَةٍ، وَتَقَلَّبَ فِي نَعِيمٍ وَسُقِيَ مِنْ تَسْنِيمٍ مَخْتُومٍ
بِمِسْكٍ وَعَنْبَرٍ، يَشْرَبُ مِنْ خَمْرٍ مَعْذُوبٍ شُرْبُهُ، لَيْسَ
يُنْزَفُ لُبُّهُ. هَذِهِ مَنْزِلَةُ مَنْ خَشِيَ رَبَّهُ وَحَذَّرَ
نَفْسَهُ، وَتِلْكَ عُقُوبَةُ مَنْ عَصَى مُنْشِئَهُ، وَسَوَّلَتْ لَهُ
نَفْسُهُ مَعْصِيَةَ مُبْدِئِهِ، لَهُوَ ذَلِكَ قَوْلٌ فَصْلٌ وَحُكْمٌ
عَدْلٌ، خَيْرُ قَصَصٍ قُصَّ وَوُعِظَ بِهِ وَنُصَّ، تَنْزِيلٌ مِنْ
حَكِيمٍ حَمِيد"